كلنا يعلم أن قسماً من معارف ديننا موجود في بطون الأدعية
وقد وصلَنا من خلال الدعاء وبلسانه الجذاب
وقرار أئمة الهدى(ع) في إبلاغنا المعارف بلسان الدعاء
كان يعود تارة إلى ظروف الزمان بسبب القيود على باقي الأساليب
وتارة أخرى لضرورة الدعاء نفسه
وأنه لا بد أساساً من أن يعلّمونا كيف ندعو
وثالثة إلى أن بعض المعارف غير قابلة للنقل، في الواقع، إلا عبر الدعاء
إلى هذا الحد لغة الدعاء مهمة
كما أن بعض الأجواء التربوية، الدعاء هو الذي يستطيع خلقها للإنسان
فلسان الدعاء اللطيف، والمقام الخاص بالداعي
حيث إنه يتفوّه بهذه العبارات في حضرة ربّه في منتهى رقة الروح
من شأنها جميعاً أن تزيد أثر هذه المعارف في روح الإنسان
ألا وإن دعاء الافتتاح غير مستثنى من هذه القاعدة
فهو ينقل للإنسان معارف في قمة الروعة
سيّما في حال الدعاء الرائعة، التي نسأل الله أن يهبنا إياها جميعاً، وبوفرة
فالبعض قد تنتابه حالُ الدعاء لكن مرة أو مرتين في السنة
أما البعض فيتمتع بحال الدعاء يومياً
بل وينقبض صدرُه في بعض ساعات اليوم إذا فقدَها
لكن في الوقت ذاته، ورغم ذلك، فقد يتعجب المرء أحياناً
من أنّ أدعيتنا قد تطرح قضايا اجتماعية
وهو ما أشرنا إليه في الليالي الفائتة
وهي قضايا لا تصوّر إلا التجاذبات الاجتماعية، بل قد تبدو أموراً جافة
لكن أمثال هذه المعارف قد ضُمِّنَت في أدعيتنا بكل روعة
من هذه المواضيع والتي بُيّنَت، بالمناسبة، في دعاء الافتتاح ببراعة
والتي تُعَدّ أيضاً مقدمة لتمنّي الظهور
وتمهيداً للاتصال بصاحب الزمان أرواحنا له الفداء
هي أن على تالي دعاء الافتتاح أن يحدد رؤيته وموقفه الاجتماعيَّين
فاستعمال لفظتي المستضعَف والمستكبِر
والإفادة من كلمات مثل الجبارين والظالمين والهاربين وأمثالها
وطريقة استعمالها في الدعاء أمرٌ لافت ورائع جداً
فلا بد أنكم قرأتم في دعاء الافتتاح:
«الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي يُؤْمِنُ الْخائِفِينَ وَيُنَجِّي الصَّالِحِينَ وَيَرْفَعُ الْمُسْتَضْعَفِينَ
وَيَضَعُ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَيُهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِين»
وقد تناولنا هذا المقطع لصِلةٍ ما في حلقة سابقة
لكنه يستحق الذكر مرة أخرى
لأنه مناسب جداً لمواضيع آخِر الدعاء، أي الظهور والفرج
ما أوَدّ قوله هنا
هو أن البعض لا ينظر إلى المستكبرين من زاوية استكبارهم وظلمهم
وأمثال هذا أناس عجيبون جداً
فإذا شاهدوا قصور المستكبرين مثلاً
لا تنصرف أذهانهم أبداً إلى أنه: على جماجم مَن شُيّدَت هذه القصور؟!
وإن رأوا إمكانيات وتطور دول الاستكبار
لا يخطر ببالهم إطلاقاً بأنه: كم قد نهب أصحابُها الشعوبَ وسلبوها؟!
وكم أشعلوا من الحروب حتى بلغوا هذا المجد؟!
لا بل يحدّثون أنفسهم بكل بساطة بإن هذه دول متطورة!
ولا يكادون يُدركون، إلاّ بشق الأنفس، الظلمَ الكامن وراء هذا التطور
والذي كان كامناً دوماً، ولولا الوقوف بوجههم لظلوا متمادين في ظلمهم
ما أريده هو لفت نظركم إلى نفسية أولئك
الذين تعمى أعينهم عن الظلم والظالم والمظلوم في العالم
ولا تشاهِد إلا القصور المشيَّدة
ولا تبصر إلا بعض الإمكانيات التي هيأها هؤلاء من حولهم!
وهذه الحالة تشاهَد الآن، بشكل ما، في مجتمعنا
فالأمم المتطورة تعني الظَّلَمة!
أو على الأقل أولئك الساكتين على الظلم!
فأهم الدول المسمّاة "متطورة!".. المتطورة في نظر السُذَّج
هي التي تقترف في العالم أبشع ألوان الظلم!.. وأسوأ أشكال الجريمة!
وإن بعض الدول التي يبدو أنها متخلّفة، وغير متطورة
هي مستضعَفة، ومضطهَدة.. من هذه الزاوية يتعين النظر
والحق إن سماحة الإمام الراحل(ره) كان ينظر من هذه الزاوية
وكان يود أن يعلّم الناس النظر منها أيضاً
إننا ـ بمشيئة الله ـ سنصيب بعد الظهور تطوّراً
فالتطور الذي سيحصل، كما في الخبر، يعادل 25 وِحدة
في حين أن كل ما حصل من تطور قبل الظهور، مهما زاد
لا يتعدّى وِحدتين اثنتين مقارنة بالـ25 تلك
تطوّر الدول المتقدمة الآن في الصناعة والتكنولوجيا لا شيء
قياساً بما سيحصل بعد الظهور
فالتطور بعد الظهور سيكون دونما ظلم وبعيداً عن القتل والجريمة
أما الآن فما من تطور قائم، إذا ما استعرضتم تاريخ أوربا وتاريخ أمريكا
إلا وقد استُحصل بالحرب وسفك الدماء
نعم قد تكون ثمة بعض الدول ممن لم يكن لها في الحروب دور فاعل
على أن الصمت الخائن لهذه الدول قد يكون أحياناً
أمَرّ من جرائم هتلر وأمثاله من الجُناة
لكن البعض على أية حال لا ينظر بهذه النظرة مكتفياً ببعض مظاهرالرُقِيّ
على أنه يُقرّ بأنه لا يوجد في دول الغرب إلا "بعض" مظاهر الرُقِي
وإلا فلو قال امرؤٌ بتطوّرهم ورُقيّهم المطلق لكان في قمة الجهل
فحينما تشاهَد "بعض" مظاهرالتطور فيما نصطلح عليه بالغرب
فكم يوجد وراء هذا التطور من استكبار؟!
إذن دعاء الافتتاح يعلّمنا النظر عبر هذا المنظار
أن: انظروا إلى المستكبرين بصفتهم مستكبرين
ولا ريب أن المستكبرين هم دوماً أوفر ثروة
وانظروا إلى المستضعَفين بصفتهم مظلومين ومضطهدين
ولا شك أن مَن استُضعف ومورس عليه الظلم قد يشكو ألوان الحرمان
وقد لا نُحب نحن أن نخالطه أو نتشبّه به
أجل، فنحن نحب التطور، لكن التطور الذي يتحقق بلا جريمة
النظر من هذه الزاوية، وهو ما يميّز رؤية الثوريين
والذي ميّز رؤية الإمام الراحل(رض)
هذه النظرة يعلّمنا إياها الدعاء أيضاً
فوسط الأذكار الرائعة ومناجاة العبد مع ربه..
وفي أثناء خلوته، حيث يود ذرف الدموع.. والثورة بعواطفه
والالتذاذ بعلاقته العاطفية مع الله.. أمرونا أن نقول هذا أيضاً
أن: تبرّأ من مستكبري العالم..
فمجرّد تصريحك بـ«يَضَع المُستَكبرين»؛ أيها الرب الذي يبيد المستكبرين
هو بحد ذاته شكل من أشكال البراءة
هو بحد ذاته نوع من التبرّي من الظلم، والدفاع عن المظلوم
الأدعية تعلّمنا أن لا نكون أناساً سلبيين
وأن ننظر إذا صادَفْنا أهل النعمة والرفاهية في أنه:
هل تنعّمُهم هو نتيجة ظُلمهم وجرائمهم أو لا؟
بل دعوني أنوّه بما هو فوق ذلك أيضاً
فالبعض قد يكون متنعّماً
لكنّ رضوخَه للظلم هو الذي أتاح له فرصة نيل بعض مظاهر التقدّم!
فلا مانع لديه أن يجعل بلدَه مُستعمَراً وشعبَه حقيراً
مقابل أن يصنع سيارات راقية!
أهذا هو مقتضى الإنسانية؟!
أيقتضي الشرف الإنساني أو يجيز لنا السكوت على ظلم الظَّلَمة
مقابل أن نحيا لبضعة أيام أكثر راحة؟!
والأدعية تزوّدنا بهذه النظرة، سيّما هذا الدعاء الذي يصرّح بهذه الأمور
فإن صار لامرئ مثل هذا الموقف فخليق به أن ينخرط في المنتظرين
والمثال الرائع والمتميّز جداً لامتلاك مثل هذا الموقف هو دعاء الندبة
فمعظم الصفات التي يذكرُها هذا الدعاء لصاحب الزمان(ع)
هي تلك المتصلة بمقارعة الظالمين
فما جدوى دعاء الندبة لمَن ليس أهلاً لمقارعة الظالمين؟!
بل لا معنى لقول أمثال الأخير: يابن الحسن، لقد اشتقتُ إليك..!
فما داعي اشتياقك للإمام؟
الإمام إذا ظهر لن يتفرّغ للمسائل العاطفية مع مريديه فحسب
بل سيصطدم لا محالة مع رؤوس الكفر والظلم والاستكبار
فلا بد من تلاوة بعض فقرات دعاء الندبة بصوت ولسان حماسي
وينبغي أن يُنشِد ذاكرو أهل البيت(ع) ذوو الصوت الحسَن على هامشه
أشعاراً مشحونة بالحماس.. تشبه الأناشيد القتالية
أن تكون بقوة الأناشيد التي ينشدها أهل الحق لدى حرب الباطل
فدعاء الندبة أساساً هذه نظرته إلى الإمام المهدي(عج) والظهور
كما أن الظهور بلا شك لن يحصل دون صراع مع الباطل
نسأل الله أن يجعلنا من مقارعي الظلم والمدافعين عن المظلوم
ولا يجعلنا من الخاضعين للظلم بسبب هوانهم
ولا ممَّن يطلب، في منتهى الذلة، شيئاً من راحة الدنيا