إنّ ذِكرَنا لأولياء الله، ولِصاحب الزمان(ع) في دعاء الافتتاح
يُعدّ جزءاً من العبادة ونمطاً من أنماطها
لا ينبغي تصوُّر أن ذِكرَ أولياء الله أمرٌ يتّصل بعقائدنا الدينية الخاصة
ولا صلة له بالعبادة
ففي الحديث: «ذِكْرُ عَلِيٍّ(ع) عِبَادَة»
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): «إِنَّ ذِكْرَنَا مِنْ ذِكْرِ الله»
ذكرُنا فرع من ذاك الأمر العظيم المُسمّى "بذكر الله"
فالمرء إذا استعرض محاسن أولياء الله كان كمَن يستعرض ذكر الله
وحينما يصل المرء، في طريق الروحانية والتقرب
إلى حيث يتعلّق تدريجياً بذكر الله ولا يطرق باب ربّه لمجرد الحاجة
بل إنّ ذكر الله سيكون تلقائياً مبعث هدوئه وسكينته
سيكون بشكل تلقائي مثاراً لتسليته.. ومدعاةً لأمله وطَمأنَتِه
إذا بلغ الإنسان هذه المرحلة فمن الطبيعي أن يحصل له شيء آخر
وهو أن يصير ذكرُ أولياء الله أيضاً ممتعاً له
تصوروا ذاك الذي يقرأ زيارة الجامعة
كيف أنه يعدّد صفات أهل البيت، وأئمة الهدى(ع) صفة صفة دونما ملل
في كل مرة ينظر إلى فضائل أولياء الله ويتحدث عنهم من زاوية
وهذا من أرقى مقامات الإنسان الروحانية
الذي إن بلغَه باتَ من "أهل الذكر"، وإلا كان من أهل الغفلة!
فالذي تدفعه احتياجاتُه الآنيّة وحوائجه المادية الخاصة وبلاياه
إلى التوجّه إلى الله، والذي يقول فيه القرآن، بالمناسبة:
«دَعَوُا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّين»!
ليس هو من أهل الذكر، بل هو تفاعُلٌ منه بالإكراه قادَه إلى تذكّر ربه!
فأهل الذكر هم الذين يودّون تذكير أنفسهم بهذه الأمور
أي يحبون أن يتكلموا إلى الله، وهو ما يمدّهم باللذة
إلى درجة قول الإمام السجاد(ع)، وما أروعه من قول! في دعاء له
وهو أحد المناجاة الخمس عشرة، إذ يخاطب ربه وهو بين يديه:
«وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِك»
فليس بالضرورة، في عملية الذكر، أن نسعى وراء فائدة خاصة
وأن نقول، إذا دُعينا إلى الدعاء:
"حسنٌ، لنَرَ أولاً ما الذي ينقصنا؟.. ما الحاجة التي تنغّص عيشنا؟..
ما الحاجة التي تُلحّ علينا للمثول بين يدي الله؟".. ومن ثم نتوجّه!
بل حتى عند الاستغفار.. إذا ما دنّسَتنا بعض المعاصي
واضطُرِرنا بسببها، بعد أن باتت تؤذينا وتؤثر على حياتنا
إلى التوجه إلى الله مستغفرين
أقول: وفوق هذه الحاجة أيضاً
فإن الإنسان يملك أن يبلغ مقاماً يحب فيه ذكر الله
تأمّلوا في حياة البعض من المولعين بالاستماع للأغاني
والذين يحبون وجودَ ما يطنطن في آذانهم دائماً
ومضامينَ تتكرر على مسامعهم.. وأنّ تكرارها هذا يورثُهم لذة
نحن أيضاً في مقدورنا أن نكون من الذين
يلتذّون بتكرّر مضامين عن الله، ومن ثم عن أولياء الله
أن نلتذ بذكر أهل البيت وأشعار مدحهم ومناقبهم، بل وحتى مصائبهم
وتعلمون أن ذكر المصائب، بطبعه، ليس ذكراً سلبياً
فإن ما يجنيه المرء من ملحمة عاشوراء من اللذة
وما يكسبه بسبب محاسن حرم الحسين(ع) المعنوية جرّاء هذه الظلامة
من النشاط، ما يجعل مرتادي مجالس العزاء يخرجون منها بمنتهى النشاط
لأن ذكر المصيبة، في الواقع، ليس هو بمعناه الدارج
بل هو ذكر محاسن أولياء الله بعد أن تقربوا إلى ربهم
فيرى الإنسان فيهم عظمة العبودية، وجلال بذل النفس في سبيل الله
ففي ذكر كل هذا لذة.. ونحن وإن سفحنا الدموع فإننا نستشعر لذته
إذن، أساساً علينا التنبّه إلى أن مقام الذكر
هو مقام تعويد الروح على استذكار جمالات عالم المعنى..
استذكار أسماء رب العالمين..
يا لسعادة الذين يأنسون بدعاء الجوشن الكبير..
أو الذين يذكرون الله عبر تلاوة القرآن، أو عبر سائر الأدعية!
فإن تعرّفَت روحُ الإنسان على الذكر وتعلّم قلبُه التلذّذ به
لصدَفَ، أساساً بشكل تلقائي، عن سائر اللذات
دونما حاجة إلى توصيةٍ من أحد بأن يرجوه أو يأمره أنْ:
اعزِفْ عن باقي اللذات وهلُمّ والتَذَّ بذكر الله!
فهذه المسائل في معظمها ليست مما يحتمل التوصية
بل على المرء أن يلمسها
فبمجرد توفّرنا على بعض صفاء الباطن.. ونأيِنا عن الآثام
واستغفارنا بعض الشيء.. وانتهاجنا بعض السلوك المؤدب في العبادة
سيُوصِلنا إلى حيث نكون من أهل الذكر
فإذا فرغنا من صلاتنا لم نحب النهوض من مصلانا
ومُضيّاً في هذا المبحث، من ضرورة الاجتهاد في الانخراط في أهل الذكر
فإنه إذا أصبح المرء من الذاكرين لله، أمسى ذاكراً لأولياء الله أيضاً
وسيرى أن ذكر صاحب الزمان أرواحنا له الفداء سيغدو لذيذاً له
وترون كيف يستبشر قلب المرء في هذه الفقرة من الدعاء
لدى شروعه بذكر صاحب الزمان أرواحنا له الفداء:
«اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِكَ الْقَائِمِ الْمُؤَمَّلِ وَالْعَدْلِ الْمُنْتَظَرِ...
حُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِين»
«اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِكَ..» حين يبدأ المرء بذكر صاحب الزمان(ع)
سيما وأنه(ع) حي، وملتفت
ومن المستبعد جداً أن نصلي عليه(ع) دون أن يلتفت إلينا
فإنه لمِمّا يشُقّ تصديقُه
أن نحادث الله عنه(ع) ثم لا يلتفت إلينا في اللحظة ذاتها!
هذا مستبعد كل الاستبعاد ولا يمكن أن يقبله الإنسان
طيب، إن ذكر صاحب الزمان أرواحنا له الفداء
له من بين أذكار باقي الأولياء حلاوة مختلفة
صحيح أن رسول الله وباقي الأولياء عليهم آلاف التحية والثناء
كلهم شهداء، وأحياء، وشهود أيضاً
لكن مع ذلك فإن الإمام الذي تقع مسؤوليتي بالفعل بيده
والذي نعيش بالفعل في ظل نظراته العطوفة، يختلف بعض الشيء
أولئك الذين شاهدوا صاحب العصر أرواحنا له الفداء في صباه
شاهدوه وهو آخر الأئمة في محضر الإمام العسكري(ع)
يروُون أنفسُهم بأن محبة غير عادية ومختلفة
تجاه الإمام المهدي(عج) قُذفَت في قلوبهم
بل وقد أخبروا الإمام الحسن العسكري(ع) بذلك فأيدهم
بأننا أهل البيت(ع) هذه صفتنا
واستذكار المحبوبات هو جزء من حياتنا
فإن لم نوجّههُ بالشكل الصحيح اتجه نحو استذكار المكاره
وتذكّر السلبيات، والهواجس، والحسرات، والحسد، والنقائص
ما سيُفسِد أجواء حياة الإنسان
فالذكر موهبة في الإنسان وقدرة
وعادة سلوكية تدفعه إلى استذكار مجموعة من الأشياء
ونحن إن لم نتحكم في هذه القدرة فسوف لا تتعطل
بل ستوظَّف في المساوئ والمآسي
فإن شئنا التحكّم فيها والتفكير بإيجابية وممارسة الذكر بشكل إيجابي
فإن أفضل ذكر وأكثره روعة وتزويداً بالطاقة هو ذكر الله
في البدء قد تكون حاجاتنا هي الدافع لطرقِنا بابَ الله
ومن بعده قد يكون الغرض هو العبادة.. الواجبة منها
يقول تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»
أساساً صَلِّ لتجدَ نفسَك في جَوّ من ذكري
وبعد أن صرنا من أهل الذكر قليلاً بالعبادة
(وهو أسمى من أن نكون أهل ذكر لغرض الحاجة)
فسوف نحب الذكر.. وحبّنا هذا سيجعلنا من أهل ذكر أولياء الله أيضاً
ذلك أن الله تعالى قد جعل في أوليائه من نوره
فإن كان ذكر الله ينوّر القلب فذكر أولياء الله يفعل الشيء ذاته
وإنْ لبّى ذكرُ الله حاجة البشر الفطرية إلى هذا الذكر
فإنّ ذكر أولياء الله أيضاً يفعل ذلك بحسبه وبحدوده
كما أن أهل بيت العصمة والطهارة(ع) سيستجيبون أيضاً
فإن كنا ذاكرين لهم كانوا هم أيضاً ذاكرين لنا
بل لربما، انطلاقاً من الحديث القائل:
«الذِّكْرُ.. أَوَّلٌ مِنَ الْمَذْكُورِ وَثَانٍ مِنَ الذَّاكِر»
فلربما ابتدأَنا أولياء الله بذكرنا أوّلاً فوُفّقنا نحن لذكرهم
فإن صارَ امرؤٌ من أهل الذكر.. وإنّ كل امرئ لقادر على ذلك..
فكل امرئ، مع قليل من الاستغفار، وشيء من تخصيص الوقت
وبعض العبادة المنظمة، يمكنه الانخراط في الذاكرين
وكل من انخرط في الذاكرين، والتذَّ بالذكر
(الذي نتيجته فقدان باقي اللذات بريقَها في عينه وتركِهِ لها تلقائيا
فإن دعوتَه إلى فيلمٍ مُسَلٍّ انقبض صدره قائلاً:
كلا.. لا ابتهج الآن بمثل هذه الأمور!)
طيّب، إنه مبتهج بذكر الله
وأشد ابتهاجاً ممن يشاهد فيلماً مفعماً بالنشاط، بمعناه الهزلي والدنيوي
فإن غدا المرء من الذاكرين وجنى من الذكر لذة فترَت باقي اللذات عنده
لا أنه تخمل روحُه ويخبو نشاطُه
بل ويكسب – بالمناسبة – نشاطاً أكبر من الذكر
من هنا فإن استقرار أمثاله في أجواء ذكر صاحب الزمان(عج)
الذي يختلف – بالمناسبة – اختلافاً خاصاً مع ذكر باقي الأولياء
يمنحه دفئاً ما
ولاستشعار لذة أمثال هؤلاء يمكنكم الذهاب إلى مسجد جمكران، مثلاً
أو المشاركة في مجالس دعاء الندبة أو دعاء الافتتاح
وتأمّلوا في أعين الداعين..
شدَّ الرحال من مسافات شاسعة قادماً إلى جمكران
مستحضراً أن في المسجد مجرد علامة للإمام(عج)
وليس بالضرورة أن يكون حاضراً فيه، كحال باقي مزارات أولياء الله
على الرغم من أن الإمام ينظر إلى مَن التفت إليه ويحبوه بعنايته أينما كان
لكن حينما يرى المرء علامة خاصة فيقصدها ملتفتاً إليها مهتمّاً بها
فإنك ستلمس إن نظرت بعينيه روعة ما ينتابه من حسٍّ وما فيه من طاقة
هذه الطاقة مؤشر على أن هذا الإمام، الذي لم يسمع الناس عنه الكثير
والذي لم يُروَ فيه رثاء كما هو الحال مع أبي عبد الله الحسين(ع)
وليس في المتناول إلا اسمه، والاعتقاد والمعرفة بوجوده المطهر(عج)
- أنه(ع) كم يُثير من اللذة في قلوب الناس!
وإن باستطاعتنا بالإقامة على باب صاحب الزمان أرواحنا له الفداء
وبالانهماك بذكره أن نذوق، شيئاً فشيئاً، لذة ذكره(عج)
وحينها سنعيش حياة معنوية مختلفة.