«اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ
حَتَّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ»
إن علينا في ليالي شهر رمضان المبارك أن ندعو للظهور
وفيما يتصل بالظهور وفرج الإمام صاحب الزمان(ع)
فإن دعاء الافتتاح يعلّمنا بالدقة ما الذي يحصل
دعاء الافتتاح دعاء تعليمي ودعاء في غاية الدقة يوضح لنا حِكَماً رائعة
ومن هذه الالتفاتات العميقة جداً هي أنه: ما الذي سيحصل عند الظهور؟
سوف لا يخاف(ع) من أحد لدى إقامته الحق
على مر التاريخ كان يساور الأنبياء والأولياء في موضوع إقامة الحق
خوف من الآخرين
وتارة كان هؤلاء الآخرون الظلمة، وتارة أخرى عامة الناس
وتارة ثالثةً الرأي العام
ولهذا لم يكن أولياء الله يُصرّون كثيراً
ولما كانوا يرون أن الرأي العام لا يستطيع نصرتهم في مواجهة الظالمين
أو أن الناس أنفسهم لا طاقة لهم على تحمّل أحكام الدين
فقد كانوا يتراجعون
على أنهم كانوا أحياناً يستشهدون في هذا الطريق
أما الحق فما كان يُقام!
عبارة: «لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ»
تذكّرنا بالكثير من قصص التاريخ
لما اعترض أمير المؤمنين علي(ع) على الناس في المسجد
أنّ الصلاة بهذه الطريقة لم تكن على عهد رسول الله(ص)
وأن ما تقومون به الآن بدعة ومخالف لحكم الإسلام
تظاهر الناس ضدّه.. وكان ذلك في أوائل عهد خلافته(ع)!.. في المدينة!
وكان الجميع معتقداً بعلم وفضل أمير المؤمنين(ع)!
فكان أن ترك علي(ع) الناس يُصَلّون كما يشاؤون
وقد جاء في الخبر أن قسماً كبيراً من أحكام الدين
لم يستطع أمير المؤمنين علي(ع) تطبيقه
لمّا شاهد أن الناس لا طاقة لهم على تحمّله
وذلك خوفاً من خروجهم من الدين
بل لقد أوضح(ع) أن سبب عدم مطالبته بحقه منذ البداية
كان الخوف من أن يُمحى هذا المقدار الذي يقام الآن من الصلاة!
فلم يكن للناس تلك الطاقة على تحمّل أوامر الله الثقيلة
ولقد ذكر التاريخ أنه حينما أرادوا اغتيال رسول الله(ص)
وكشَف جبرئيل الأمين(ع) خطتهم، وزاد النبي(ص) من حُرّاسه
بل وتم إلقاء القبض على الفاعلين، التفتَ حذيفة لرسول الله(ص)
مستفسراً عما عليهم صنعه بالفاعلين: أيقتلونهم، أيكشفون أمرهم
فإنهم قد حاولوا قتل رسول الله(ص)!
فأشار عليه النبي(ص) أن يتركوهم
مستدلاً بأن الناس سيقولون: لقد قتلَ محمد أصحابَه الذين نصروه!
فالناس لا يعلمون بجرمهم
إذن الخشية من الرأي العام الذي لا قدرة له على تحليل الأمور
كان يضطر رسولَ الله(ص) إلى عدم تنفيذ بعض أحكام الله
طيب، لقد تسبب هؤلاء المنافقون أنفسهم فيما بعد بأضرار جسيمة للدين
الحق، في كثير من حِقَب التاريخ، لم يُبَيَّن من قبل أولياء الله
إِما لخوفٍ من الظَّلَمة..
ولا نقصد الخوف الخلُقِي.. فأولياء الله ديدنُهم التضحية
بل من ممانعة الظالمين وعدم سماحهم لإقامة الحق، كما أنهم لم يسمحوا
أو – بالخصوص – خوفاً من الرأي العام
أي لم تكن للناس القابلية على القبول بالحق ولا على فهمه وإقامته
حتى الشيعة منهم!
إذ كان أولياء الله أحياناً يقولون لشيعتهم: أنتم الذين لا طاقة لهم!
فلو أردنا إقامة الحق فلا يُدرَى أنتم كم ستطيقونه؟!
ومن هنا قصة الشيعي والتنور!
إذ ألح في حثّ الإمام(ع) على القيام
فأخبره الإمام بالجلوس في التنور فلم يجلس
قائلاً: كيف أدخل تنوراً وألسنة ناره متصاعدة؟!
فأمر الإمام(ع) أحد أصحابه الآخرين بذلك ففعل
فاضطرب صاحبنا حقاً، فقال له(ع): «قُمْ.. وَانْظُرْ مَا فِي التَّنُّورِ»
فرآه جالساً والنار برداً وسلاماً
أراه الإمام(ع) هذا لينبّهه أنْ: أنتم أنفسكم لا تطيقون!
إنها أشكال من الخوف، الخوف من إقامة الحق
الإمام المهدي(عج) سيظهر في زمن لن يكون ثمة خوف من إقامة الحق
لا خوف على خروج الناس من الدين، إذ قد بلغ إتمام الحجة مبلغاً كافياً
ولا خوف من الظَّلَمة، لأن القوة لإبادتهم متوفّرة
هاهنا تُطبَّق هذه العبارة:
«حَتَّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ»
إذ ذاك لن يبقى شيء من الحق لا يمكن إقامته خوفاً من عدم تحمل الناس
ففي الخبر أنه(ع) سيصدر أحكاماً بإعدام بعض أصحابه لانحرافهم
لأقل انحراف يراه منهم!
مع أن الإمام(ع) رحيم، وأنه يهدي الكثير من المذنبين إلى سواء السبيل
فليس أنه سيقتل أغلب العاصين!
بل يلتحق به من باقي الأديان جماعات جماعات
وسيكون العالم حقاً ملؤه الهدوء والطراوة
لكنه في الوقت ذاته سينفّذ أوامر إذا ما فكّرنا فيها الآن، نعم الآن..
سنرى أننا لا نطيق تنفيذها!
الإمام صاحب الزمان(ع) سيظهر في زمن
لن يعود هناك خوف من إقامة الحق
إنه(عج) سيظهر حين يكون بالإمكان إقامة الحق بتمامه
فإما الكُلّ، وإما لا
فلو اكتفينا حينها بإقامة جزء من الحق، فها نحن الآن نقيم جزءاً من الحق
فكل مجتمع ديني، وفي أزمنة مختلفة، يقيم جانباً من الحق
فمجتمعات المؤمنين ليست صِفرَ اليدين من الحق
فبوسع جماعة صغيرة في قرية أيضاً أن تقيم جزءاً من الحق
لكن الإمام المهدي(عج) سيظهر لإقامة الحق كله من ناحية
ولإقامته في جميع أنحاء العالم من ناحية أخرى
في سِنِيِّ الثورة الأولى تحديداً قال إمامنا الراحل(رض) قولاً جميلاً:
"لم يعد الوضع الآن بحيث إذا حدثت حادثة في بقعة من العالم
لا يكون للبقعة الأخرى منه دخل بها!"
بل صار العالم كله متصلاً بعضه ببعض
والحق إنه لن يكون بوسع الناس في أي رقعة من الأرض
أن يذوقوا طعم السعادة والسرور
إلا إذا طُهّرَ العالم أجمع من آثار مواجهة الحق ولوث الظلم
لهذا الحد غدا العالم صغيراً!
وربما لهذا سيكون بسط دولة الإمام(ع) العالمية سهلاً يسيراً، بل وممكناً
إن صاحب الزمان(عج) سيظهر في وقت يتسنى فيه إقامة الحق بالكامل
«لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ»
فلن يكون شيء من الحق يخشاه(ع) قائلاً:
"الناس لا يطيقون هذه الآن.. فلندعه إلى وقت آخر!"
"هذا الجزء من الحق لا يتحمله الناس الآن، فلنتنازل عنه ونهتم بآخر!"
الحق كلّه.. سيُقام على العالم كلّه
مثل هذه الأجواء يقال لها: أجواء الظهور
ودعاء الافتتاح يصوّر لنا أجواء الظهور
إنه يوضح لنا ما الذي سيحدث على وجه الدقة
وهنا يبيّن لنا أحد هذه الأحداث
فالكثيرون يتوهمون أن بإمكاننا في بقعة من الأرض..
دون أن نتدخل في شؤون الآخرين أو أن يتدخل الآخرون بشؤوننا بالطبع
يتوهّمون أن بإمكانهم أن يقيموا لأنفسهم مجتمعاً صغيراً صالحاً
وهذا مستحيل في المجتمع البشري
ذلك أن المعتدين والظالمين لا يقفون عند حدٍّ ما
ولو وقفوا عند حد لعافوا بلدنا هذا البلد الواحد في العالم
ولتركونا وشأننا... لكنهم لن يفعلوا هذا أبداً
من الطبيعي أن الحق إذا أُريد إقامته في بقعة من العالم وجد له أعداء
والله تعالى يصرّح بأنه: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً»
فما من نبي إلا وواجههُ عدوٌ، وجاهدَه..
فالحق هو هكذا.. إذ لا بد له في مواجهة الباطل من صراع
فإما أن ينتصر في هذا الصراع، وإما أن تقع عليه الظلامة
يقول في هذا الدعاء الشريف: «أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ
حَتَّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ»
وقوله «سُنّة نبيّك» يذكّرنا بوصية أبي عبد الله الحسين(ع)
حيث قال: «إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي
أُرِيدُ أَنْ.. أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي [رسول الله(ص)] وَأَبِي [أمير المؤمنين(ع)]»
ولو شاء الحسين(ع) التنازل عن السيرتين العلوية والنبوية
فلربما تصالح معه الكثيرون
لكنه إذ نوى تطبيق السيرة النبوية بحذافيرها
فقد كرّرَ ما لم يُطقهُ الناس على عهد أمير المؤمنين(ع) أيضاً
وكمثال عليه أذكر قضية تقسيم الغنائم بين الناس
فقد ساوى(ع) بين الناس في تقسيمها، فلم يتحمل الكثيرون ذلك
لدرجة أن الإمام(ع) بقي وحيدا تماماً، وكان هذا أحد أسبابه
كان الناس يشاركون في الحروب
لكن لما كانت الحروب داخلية كان(ع) يَحُول دون الكثير من التصرفات
كان لا يسمح بمعظم ما كان مجازاً في حروب أخرى
فكم كانت مراعاته للمساواة والعدل هذه
حين كان العدل يقتضي المساواة، كما في تقسيم بيت المال
كم كانت مثاراً لمعارضة الناس الصريحة لعلي بن أبي طالب(ع)؟!
مما كان بالطبع يعرقل تقدّم المسيرة
طيب، كتبويب نصل إلى نتيجة مفادها
أن الحق سيقام مُطبقاً على العالم بأسره
أولاً لا بد أن يُقام الحق كلُّه كي تستقر دولة الحق العالمية الواحدة تلك
فببعض الحق لا يبلغ الإنسان السعادة الاجتماعية ولا ينعم بالمدينة الفاضلة
ثانياً لا بد لهذا الحق أن يقام في العالم أجمع
وهو ما نلمس، الآن تحديداً، ضرورتَه شيئاً فشيئاً
ليس نحن فحسب، بل إن أكثر أبناء البشرية باتوا يلمسون هذه الضرورة
وهي أنه ما لم تُجتَثّ أصولُ الظلم بالكامل
لن يذوق الناس طعم الطمأنينة في أيما بقعة من الأرض!
ليس ما لم تُجتَثّ أوصول الظلم بالكامل فحسب
بل ما لم يقام الحق بصورة كاملة فلن يذوق الإنسان طعم السعادة إطلاقاً
إن علينا في معظم مجالات التعليم أن نُخرج أنفسنا من ألوان السذاجة هذه
وهو القناعة ببعض الحق..
والقناعة بإقامة الحق في جزء من المجتمع، أو بعض المجتمع العالمي
علينا إخراج أنفسنا من سذاجة أن هذا يمكن أن يكون مجلَبةً للسعادة
وأن باستطاعتنا تمشية حياتنا به!
وإن حياة البشر ستتدهور باطّراد
بما يجعلهم يقفون على هذه الضرورة كل وقوف
وسيرفعون أصواتهم مع هذه العبارة الرائعة الدقيقة للغاية:
«حَتَّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ».