في فقرات من دعاء الافتتاح
الذي يفترض أن يزيّن لنا شهر رمضان المبارك
باسم صاحب العصر والزمان(عج) وذكره
كي نستطيع عبر هذا الدعاء
أن نلمس العلاقة بين شهر رمضان المبارك والظهور
وبينه وتمنّي الفرج على نحو أفضل
ونلتفت إلى حكمة أنه
لماذا أرادونا أن ندعو للفرج كل ليلة في شهر رمضان المبارك؟
أقول: في فقرة من الدعاء نلاحظ عبارات
(على أن مضمون هذه العبارة يتكرر في بضع مواضع)
تحوي دعاءً خاصّاً نوعاً ما
«اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ الدَّاعِيَ إِلَى كِتَابِكَ»... «وَالْقَائِمَ بِدِينِك»
لاحظوا أن الدعاء هنا يتوجّه في الحقيقة إلى الدين!
"إلهي، لا نريد أن يأتي(ع) لبسط العدالة لنا
على أن هذا جيد جداً وهو سيحصل لا محالة"
لكن رغبةً في الدين تُلحَظ في هذا الدعاء!
من أين تتولد الرغبة في الدين لدى الإنسان؟
ولِمَ تدعو هذه الرغبة الإنسانَ للدعاء للفرج، من هذه الزاوية ولهذا السبب؟
أو قوله: «مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لَه»؛ سهِّل له إمكانية إقامة الدين
أو في موضع آخر: «اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ»
فالدعاء للفرج هو دعاءُ مَن يحترق قلبُه للدين!
على أن الناس يحملون فهماً خاطئاً عمَّن يحترق قلبُه للدين
فهم يعتقدون أن أشخاصاً كهؤلاء قد داسوا على مصالحهم
وما عادوا يهتمون بمنافع دنياهم، ولا يشغلهم غير دين الله!
طيب، المحسوبون على أهل الدنيا سيبتعدون عن أناس كهؤلاء
في حين أن الذي يحترق قلبه للدين
ولأنه "ما دمنا بلغنا المائة فالتسعون في حوزتنا" (شعر)
يحترق قلبُه على دنيا العباد، وعلى مصالحهم أيضاً
إذ لا تُضمَن مصالح الناس إلا بالدين
فبمجرد ترديد عبارات "الحرية"، "وحقوق الإنسان"
وتكرار مصطلحات "الضمير" "والأخلاق" هنا وهناك
لا تنبعث في المجتمع قوة توفّر مصالح أفراده
ولا يتحقق فيه نظام يمكنه تنظيم حياة الناس
بترديد بضع مُثُل إنسانية عليا بوسع المرء قولها حتى من دون دين
من الفضائل الخلُقية وصولاً إلى القضايا المتصلة بحقوق الإنسان
أوَيَبلغ الإنسان السعادة بترديد هذه الأمور؟! ممتاز لو بلغَها هي نفسها!
نتكلم هنا بعيداً عن الله
أوَينال البشر الحرية وحقوق الإنسان بمجرد ترديد هذه المصطلحات؟!
أوَنالوها إلى الآن؟!
أوَيتحلّى البشر بالأخلاق بقول: "أخلاق"؟
أوَتَحلّوا إلى الآن؟.. أوَحصلَ هذا؟
لربما اقترب البعض ببضع كلمات، لا أدري كم، من السعادة شيئاً ما
ودعونا نفترض أن سعادة الإنسان ليست في التقرب إلى الله!
لكن الدين - بعيداً عن الحكمة الكامنة في أوامره - يولّد قوة
يتوفّر تحت ظلها لأفراد المجتمع الأمن، والهدوء، والحرية
وهذه هي حقيقة الدين!
إن الدين اليوم يُبرِز قوته
صحيح أن الكثيرين على مَر التاريخ أساؤوا استغلال قوة الدين
وهؤلاء هم الذين زادوا نسبة النفور من الدين
هؤلاء هم السبب في تملّص الكثيرين من الدين..
هذا صحيح.. لكن لا يلتبس علينا الأمر
فإنِ استخدم بعضُهم أداةً بشكل خاطئ أفَيتعيّن التخلّص منها؟!
وإنِ استعمل أحدٌ السكينَ كأداةَ قتل
أوَيجب أن يمتنع الجميع عن استعمالها في مطابخهم؟!
إن الدين منهاج للحياة.. وحافز للأفراد..
وقوة للمجتمع بوسعها إيصاله إلى بر الهدوء
والذين يدركون هذه الحقيقة لا ينفكّون يلجأون إلى الله قائلين: إلهي، دينك!
إلهي، أقم دينك على يد صاحب الزمان(عج)!
والذي يحترق قلبه للظهور
ليكن في علمنا أنه ليس فقط ذلك الذي يغتمّ للعدل
فالعدل هو الآخر يُبسَط عبر منهاج اسمه "الدين"
والعدل بالذات هو لأنه من أبرز تعاليم الدين
قال تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»
كما أن جدوى العدل هي أنه يُوصِل الناس للدين بسهولة أكبر
الدين يُجَمّل حياة الإنسان.. يجعل للمرء مُثُلاً عليا..
يجعل لحياته ألواناً بدل الأبيض والأسود..!
فلِماذا نبتعد عن الدين؟!
لا بد من النظر إلى الدين بوصفه عاملاً يوفّر للإنسان سعادة الدنيا بسهولة
ويؤَمّن له لذّاته الروحية، بل ويولّد قوة اجتماعية
وبالمناسبة فإن معارضة معظم سلطويّي العالَم وجبابرته للدين
من قديم الزمان إلى الآن..
بدءاً من أمثال قابيل، ومروراً بمناوئي الأنبياء جميعاً
وجيش أبرهة الذي قَدِم مكة محاولاً تسويتها بالأرض..
وأمثال أبي لهب وأبي جهل وغيرهم.. وأشباه يزيد وكل من ناوأ الدين..
فلماذا ناوأ أربابُ السلطة الدينَ؟
لأنه يخلق قوّة تواجههم!.. ويقوّي الضعفاء، ويُنقذهم!
فإذا كان يقوّي الضعفاء فسيعارضه الأقوياء
نعم، لقد تعرض الدين طيلة التاريخ لإساءة الاستغلال
تحدّثتُ ذات مرة في جمع من الضيوف الأجانب حول كون الدين مُنجٍ
وكان عدد من الضيوف من مناوئي الصهيونية
فالتفت لي أحدهم قائلاً:
طيّب، لكن تنبّه أيضاً إلى أن الدين قد أُسيء استعماله جداً طيلة التاريخ
فالناس في الغرب يخشون إذا تصدّر الدين أن تنفتح باب استغلاله ثانية!
أجل، إنها مخاوف مهمة جداً.. ولا بد من احترامها
والرد عليها هو في صُلب الدين نفسه
فالدين الذي سيطبّقه الإمام صاحب الزمان أرواحنا له الفداء
بل حتى الذي سيشكل التمهيد لظهوره وفرجه(ع)
هو دين سوف لا يتسنّى استغلاله بسوء
فإنه سيضَمِّن ويودِع في داخله عناصرَ تحول دون هذا الاستغلال
فالناس، إذن، تهوى تأمين مصالحها الخاصة، الفردية منها والجماعية
والذي يميل إلى الدين هو الذي يرى مصالحه الفردية في الدين، من جهة
ويرى، من جهة، أن مصالح المجتمع
والمصالح الاجتماعية من حوله، والتي هي جزء من تلك المصالح والمنافع
يراها هي الأخرى في الدين
بل، مضافاً إلى الأخيرة، يرى مصالحه الأخروية في الدين أيضاً
فالدين ليس للمصالح الأخروية فحسب
لذا فإن من الفقرات الرائعة جدّاً للدعاء، دعاء الافتتاح
وكذا أغلب الأدعية الواردة في صاحب الزمان أرواحنا له الفداء
هي تلك التي تنبّهنا إلى أن المُحبَّ للظهور مُحبٌّ للدين.. مولع بمعارفه
ففي دعاء الندبة مثلاً: «أَيْنَ مُحْيِي مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَهْلِه»
فهو(عج) يحيي أهل الدين ويحيي معالم الدين على حد سواء
كل ما في الأمر أنه من أجل إزالة الكثير من أشكال سوء الفهم
علينا أن نقدم الدين في مجتمعنا بصورة جيدة
فلقد صُمِّم الدين بعقلية جبارة وذكاء مفرط
وبما يناسب لذّات روح الإنسان، واحتياجاته البدنية والنفسية والاجتماعية
بحيث لا بد أن يُرحَّب به بوصفه منهاجاً ذكياً جداً يمنح أقصى لذة
نعم، لا ينبغي إكراه الفرد على الدين أو على أغلب جوانبه
بل يتوقف على الفرد نفسه ومقدار ما يرغب في التديّن
نعم ثمة أقسام من الدين في مجتمع ديني يتم إجبار الفرد عليها
لأن فعله أو تركه إياها يعود على المجتمع ككل بالسعادة أو الضرر
أما في باقي الأمثلة فإن المرء حُرّ في أكثر تصرفاته، بل وعقائده الدينية
إنها ليست قضية قَسْر، بل تقديم الدين بالشكل الصحيح
فعلى مر التاريخ إلى الآن، وحتى في مجتمعنا
فإنه لم يُقدَّم الدين بشكل جميل
لا أحد الآن يملك الاستعداد للقول لنفسه: أنا لستُ عاقلاً أو أنا عديم الفهم
لا أحد يقول هذا، بل الجميع يرغب في التظاهر بالفهم
أو - بتعبير آخر - الظهور بمظهر المؤدّب، والكل يرحب بكلمة "الأدب"
وكذا بمصطلحات مثل "الأخلاق".. ويراها مفاهيم حسنة
ويظهر أنها قُدِّمَت بشكل سليم حتى ترسّخَت جيداً
بحيث إن الفرد ليستاء إذا قيل له: "أنت تفتقد هذه الأمور"
"أنت بلا أدب، أو فهم، أو أخلاق" مثلاً
إنه سينزعج بإلصاق هذه التُهَم به
لكن لا أدري ما هو الفهم الذي يحمله الناس عن الدين؟
بحيث إذا قيل لأحدهم: "أنت لا دين لك" تراه يُقرّ هو أيضاً بذلك
قائلاً: "أجل، أنا لستُ إنساناً متديّناً!"
لا أدري هل يعتبر الدين سجناً فيرى التحرُّرَ منه فخراً؟!
أم يرى الدين ذوقاً خاصاً بالبعض ويريد هو أن يُظهِر ذوقه المغاير لهم؟!
ما هو فهم بعض الناس للدين حتى لم يعد مثارَ فخرٍ له؟
إن علينا في مجتمعنا أن نرسّخ فهماً صحيحاً للدين
فإن فعلنا ذلك فسوف لا يقبل امرؤ أن يقال له: "أنت بلا دين"
سيودّ الجميع لو يُنظَر إليهم كمتدينين
على أن هذا موجود إلى حد ما في بعض المواطن لكن لا بشكل واسع
كما أننا نلاحظ أن التملّص من التديُّن صار شائعاً جداً
لكن لماذا نفر؟ لنقل: لا نستطيع
لنقل: لا نملك القدرة الكافية لتنفيذ أوامر الدين كلها
لكن ليتحوّل هذا إلى ثقافة، هذا إذا قدّمنا الدين للمجتمع بشكل سليم
فليقل الجميع: نحن نرغب في أن نكون ذوي دين
وهذا غير الرغبة في الروحانيات، وغير حب الله، وغير أصل الإيمان
بل الدين نفسُه.. الدين بمعنى امتثال أوامر الله..
الدين بمعنى إظهار الإيمان على أرض الواقع وفقاً لتعاليم الله
فإذا قُدّم الدين للناس بشكل جيّد فسوف لا يتفلّتون منه
ولاسيّما في مجتمع ديني حيث قد ترسّخ الدين فيه جيداً
لكن الدين، للأسف، لم يُقدَّم بشكل جيد..
في مجتمعنا على الأقل.. وهذا وضع أغلب المجتمعات الأخرى أيضاً
فالناس تفسّر التديّن ذوقاً خاصاً!
أما زيارة الطبيب، مثلاً، عند المرض فيقبلها الجميع كأمر معقول
بل ويفتّشون عن الطبيب الحاذق أيضاً
لقد قُدِّم الدين بهيأة توحي وكأنه لا يوفّر جميع مصالح الإنسان!
وكأنه غير ذاك الشيء الذي يؤَمّن مصالح البشر
لقد قُدِّم الدين بصورة توحي وكأنّه بالإمكان العيش بلا دين دون خسارة!
طُرح الدين بصورة - أو هكذا فهمه الناس على الأقل -
وكأنه لا صلة له بالذكاء والعقل
والحال أنه تعالى يقول في القرآن الكريم:
«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَه»
طيب، إذا استطعنا تقديم الدين بشكل صحيح
وإنّ فعل ذلك هو أفضل بكثير من إشاعة أصول العقائد بالطرق التقليدية
وهو اكتفاؤنا بإثبات وجود الله، وبرهنة المعاد والنبوة.. وكفى!
فإن حصل هذا، فسوف يميل الناس إلى الدين رويداً رويداً
فإن مِلتَ إلى الدين أصبح لديك داعٍ للدعاء للفرج
فيأتي دعاء الافتتاح الرائع هذا ليدعونا للدعاء للظهور
على خلفية الميل إلى الدين وإلى إقامته، الدين الذي يوفّر لنا كل مصالحنا
«اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ
حَتَّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ».